حين نتأمل الحياة بشكل عام, لابد أن نتوقف أمام ظاهرة لافتة, تتمثل في شيوع العديد من مظاهر الحداثة الشكلية في أساليب وطرز العمارة الأجنبية, وفي التسابق في تشييد الأبراج الشاهقة, والمباني الضخمة, التي تقام علي مساحات شاسعة, تضم المجمعات التجارية, المنقولة عن النمط الأمريكي.
تناقضات
ويمكننا اليوم أن نتأمل واقعا ممتلئا بالتناقضات نتيجة إهمال مسار تنمية البشر لمصلحة تنمية الحجر, عبر شواهد لا تحصي, منها ـ علي سبيل المثال ـ إنشاء نسخ لمتاحف عالمية عريقة في قلب بعض دول المنطقة, بدلا من تأسيس أكاديميات متخصصة في الفنون والتراث، وبدلا من إنشاء متاحف وطنية لعرض تراث الفنون العربية والإسلامية التي تتفاخر باقتناء الكثير منها العديد من أعرق المتاحف الأوروبية, لخلق المواطن القادر علي تطوير آثاره ودراستها والتنقيب عنها, وتطوير الفنون والإضافة عليها.
كما نري التسابق لإنشاء الجامعات والمعاهد الخاصة, قبل أن نسعى لتطوير المستوي الأكاديمي بالجامعات الوطنية المهملة, التي تحول أغلبها إلي الاهتمام فقط بمنح الشهادات وإقامة المهرجانات لتوزيع تلك الشهادات! أو إنشاء مهرجانات سينمائية دولية.
الإنسان أولا
ولعل أي متابع لأي حركة تنمية حقيقية وتحديث ناجحة, يمكننا أن ندرك أن تلك الحركات تتأسس علي عنصرين أساسيين هما: بناء الإنسان الحر الذي يتمتع بكامل حقوقه في دولة مؤسسات, وإقامة التوازن بين الأصالة والمعاصرة من جهة, والانخراط الكامل في منتوج الحداثة، وبفحص مثل هذين الشرطين سنجد أن هناك, في عملية التنمية, نوعا من الإغفال لإمكان تحققهما.
وبإلقاء نظرة مدققة علي الواقع الثقافي اليوم في المنطقة, يتبين لنا أن ما بدأته وحرصت عليه منذ مرحلة ما قبل الاستقلال, فيما يتعلق بالعناية بالعنصر البشري, وبناء الفرد, كمحور مواز من محاور التنمية, قد تقلص, وتراجع, بالمقارنة بين الطموحات الكبيرة للنهضة الكويتية, مثلا, في بداية مشروعها التنموي, وبين ما هو موجود في الواقع الآن وهنا.
ويمكننا الآن أن نراجع أوضاعا تكشف تراجعا في حقول الثقافة والفنون والإعلام, لا يمكن القول عند رصدها إنها تعكس تجمدا في الأنشطة الإبداعية, وفي توفير المناخ الثقافي الذي تربت عليه أجيال عدة من أبناء الكويت والمنطقة في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، بل هي تعكس تراجعا سافرا في تلك الحقول, ليس علي مستوي مقارنة الطموح المأمول بما آلت إليه الأمور فقط, بل حتى على واقع تراجع كامل للنشاط الثقافي وإهمال إنجاز البنية التحتية للتنمية الثقافية, كالمسارح والمعاهد الفنية, ودور النشر, والمكتبات العامة والمتاحف وقاعات الفنون والموسيقي للكبار والصغار علي حد سواء.
الاستثمار في البشر
كما أنه من البديهي أيضا القول إن الثقافة في مجتمعاتنا العربية, تقابل ما تعكسه دور العلوم العصرية والتقنية في ترتيب مواقع الدول في تقدمها, وبالتالي, فإن المثقفين يلعبون دورا مركزيا في هذا المجال, وفي تخطيط السياسات العليا التي تنطلق من التوجه العام لديهم، ولا يمكن أن تحقق الثقافة الدور المأمول منها إذا لم يوضع العنصر البشري علي رأس أولويات التنمية في أي مجتمع, بحيث يتلقي الفرد تعليما جيدا وراقيا وفقا لأحدث نظم التعليم, وأن يتلقي المعارف, بحرية تامة, من منابعها, وأن يتعرف علي أمهات المعارف, أدبا وفكرا وعلما وفنا, وأن تتاح له الوسائل التي تتيح له التعرف علي ما يصدر في العالم من معارف, وإعمال العقل, ووضع كل الأفكار تحت مجهر النقد ليكتسب القدرة النقدية التي تمكنه من التمييز والوعي, واكتساب القيم الإيجابية والابتكار.
فمثل هذه الشخصية هي ما نحتاج إلي بنائها, لتحقيق التنمية في شكلها المثالي, والنهضة التي نصبو إليها, ليس هنا فقط, وإنما في منطقة الخليج العربي, وفي الأقطار العربية كافة، فقد خاضت المجتمعات العربية, كفاحا ونضالا قويين للتحرر من المستعمر, ثم لتأسيس نهضتها المعاصرة بسواعد أبنائها عبر استعادة تراث التنوير العقلي, وبناء شخصية قادرة علي التعامل مع لغة العصر الحديث, بندية ومرونة وطموح للوصول بثقافتنا ومجتمعاتنا إلي ما تستحق من مكانة.